كان للنبي (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع هدفان: أن يُبلَّغ أمته ولاية عترته من بعده (عليهم السلام)، ويعلمها مناسك الحج. فلم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام واتساع الدولة الإسلامية، إلا أن يبلغ آخر الفرائض بشكل عملي، ويرتب الحكم بعده لعترته الطاهرين (عليهم السلام). وكان زعماء قريش يعرفون ما يريد (صلى الله عليه وآله)، فهم يخوضون معه معركة خلافته منذ فتح مكة!
وفي حجة الوداع زادت فعالية النبي (صلى الله عليه وآله) لتكريس ولاية علي(عليه السلام) وأئمة العترة، وزادت قريش فعاليتها لمنع ذلك ! قال رجل لعلي(عليه السلام): (يا أمير المؤمنين أرأيت لوكان رسول الله ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم وأنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ؟ قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت! إن العرب كرهت أمر محمد (صلى الله عليه وآله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفَّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ! ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسلماً إلى العز والأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها ، وعاد قارحها جذعاً وبازلها بكراً ! ثم فتح الله عليها الفتوح ، فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً..).(شرح النهج:20/298). وتقدم اتهامهم لزوجته (صلى الله عليه وآله)، ومحاولتهم اغتياله في غزوة تبوك !
النبي (صلى الله عليه وآله) يضغط على قريش في حجة الوداع
تضاعف عمل زعماء قريش في حجة الوداع ! وقد بحثنا في خطب النبي(صلى الله عليه وآله) إخفائهم بشارته(صلى الله عليه وآله) بالأئمة الإثني عشر(عليهم السلام) ، والكثير من مضامين خطبه في مكة وعرفات ومنى ، ثم في غدير خم والمدينة !
وقد بدأ النبي(صلى الله عليه وآله) أعماله السياسية في مكة بتخليد مكان مؤتمر قريش لمحاصرة بني هاشم ! فأعلن(صلى الله عليه وآله)في خطبته بمكة أن موعده مع المسلمين مكان اجتماع زعماء قريش يوم قرروا حصار بني هاشم ! كما في صحيح بخاري:5/92: (نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر ! يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي).ورواه في:4/246 و8/194 و:2/158 ، ومسلم:4/86 ، وأحمد:2/322 و237 و263 و353 و540 . والبيهقي:5/160 . فنزل في ذلك المنزل وبات فيه ليلة عرفات في طريقه إليها (الدارمي:2/47) ثم نزل فيه بعد عرفات طيلة أيام التشريق ! (الزوائد:3/250) . ثم نزل فيه بعده أهل البيت ^ فعرف بمنازل بني هاشم .
أراد النبي (صلى الله عليه وآله)بذلك أن يعرِّف المسلمين بحادثة وقعت في هذا المكان قبل أربع عشرة سنة من حجة الوداع ! وكلها فخرٌ لبني هاشم وعارٌ على قريش ! فقد كان مؤتمرهم في خيف بني كنانة بالمحصب ، وتقاسموا باللات والعزى ووقعوا على محاصرة بني هاشم حتى يسلموهم النبي(صلى الله عليه وآله) فيقتلوه ! وكتبوا الصحيفة وختمها أربعون زعيماً منهم أوثمانين، ودام حصارهم نحو أربع سنين الى قبيل هجرته(صلى الله عليه وآله)!
أراد أن يعرِّف المسلمين تاريخ الإسلام وتكاليف الوحي الذي وصلهم ، وأين هو معدن الإسلام ، وأين يقع معدن الكفر ! وأن يبلغ رسالة مباشرة إلى من بقي من فراعنة قريش من رؤساء مؤتر المقاطعة ، بأنهم حملوا وزر هذا الكفر والعار ، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم في حروبهم للنبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يتراجعوا حتى غزاهم في مكة بسيوف بني هاشم والأنصار ، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل ! وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله ورسوله وهم كارهون !
لقد أهلك الله تعالى بعض قادة مؤتمر المحصب ، بالموت ، وبسيف علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكن العديد منهم كسهيل بن عمرو ، وأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية بن خلف ، وحكيم بن حزام ، وصهيب بن سنان ، وأبي الأعور السلمي وغيرهم من زعماء قريش وكنانة ، ما زالوا أحياءً حاضرين تحت منبر النبي(صلى الله عليه وآله) يسمعون كلامه ! وكانت تصرفاتهم وتأثيرهم على بعض أصحابه تدل على فرحتهم بأن النبي(صلى الله عليه وآله) أعلن قرب وفاته ، فهم يعدون العدة لحصار جديد لبني هاشم ، وهذه المرة باسم الإسلام ! فأراد أن يذكرهم بأن الله تعالى قد أحبط الله حصارهم القديم ، وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً ولو بعد حين ! ثم واصل النبي(صلى الله عليه وآله) تبليغ رسالة ربه ، والتمهيد لإعلان خلافة عترته(عليهم السلام) ، فأكد كما رأيت في خطبه في مكة وعرفات ومنى والخيف، على مقام أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) فسماهم مع القرآن (الثقلين) ، وبلَّغ الأمة أن الله تعالى فرض عليها طاعتهم كالقرآن وأنه سيسألها يوم القيامة عن القرآن والعترة ؟ وبشرها بأن الله جعل بعده منهم اثني عشر إماماً ربانياً (عليهم السلام) ، وحذر قريشاً والصحابة من منازعتهم الأمر والطمع في السلطة ، ووصف لهم مشهد الصحابة الذين سيعصونه كيف سيمنعون من ورود حوضه ولقائه . وأخبرهم أن الله أعلى قدر آل محمد (عليهم السلام) فحرَّم عليهم الصدقات، وجعل لهم مالية خاصة هي الخمس .
ثم أطلق لعنته كما تقدم على من ادعى الى غير أبيه ، وتولى غير مواليه، ومنع أجيراً أجره ، وفسر ذلك بأبوته(صلى الله عليه وآله) للأمة ، وولايته وعترته عليها ، وأن الله جعل مودتهم (عليهم السلام) أجر تبليغه الرسالة .
كما كان من أعماله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع ، أنه ميز فاطمة (عليها السلام) في أضحيتها عن نسائه ، وجعل علياً(عليه السلام) شريكه في أضحيته وجعلها مائة ناقة ، بعدد التي فدى بها جده عبد المطلب أباه عبدالله (صلى الله عليه وآله) عندما نذر أن يذبح أحد أولاده لرب البيت عز وجل .
ودافع بحسم عن علي(عليه السلام)عندما وافاه الى الحج من اليمن بعد أن أكمل فتحها، وشكوه له بأنه لم يعطهم من حلل نجران فقال لهم (صلى الله عليه وآله): (إرفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله عز وجل ، غير مداهن في دينه). (الإرشاد:1/172)
وبانتهاء الحج ، اعتبر النبي(صلى الله عليه وآله) أنه بلغ رسالة ربه في عترته بأقصى ما يمكنه ، وأن قريشاً لاتتحمل أكثر من ذلك ، فلو طلب منها بيعة علي بخلافته فقد تطعن في نبوته ، وتتهمه بأنه يريد إقامة ملك لبني هاشم كملك كسرى وقيصر ! ثم تقود حركة ردة في العرب وتخوفهم من ملك بني هاشم ، الذي سيبدأ بعلي(عليه السلام) ابن الثلاث وثلاين سنة ، ثم يكون للحسن ثم للحسين ‘ وهما دون العشر سنوات ، ثم لايخرج من أبناء فاطمة (عليها السلام) إلى يوم القيامة ! وقد صدرت كلمات زعمائهم بهذا المضمون وكأنهم لم يشموا رائحة الإسلام ! وكأن الملك لمحمد(صلى الله عليه وآله) وهو الذي يريد أن يعطيه لعترته(عليهم السلام) ! راجع موقف حذيفة بن اليمان الذي هو بإجماع المسلمين موضع سر النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقد عاش & حتى بايع المسلمون علياً (عليه السلام) ، وكان والياً على المدائن ، فكتب كتاباً قرأه على المسلمين ، وخطب خطبة دعا فيها الى بيعة علي (عليه السلام) ، ثم حدث المسلمين بعمل قريش من عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ضده وضد أهل بيته (عليهم السلام) .(بحار الأنوار:28/87).