وفي الصفحة 51 يشرح الجفري معنى الاتِّباع فيقول :
(( ترك ما نريد لما يريده الله تعالى على وفق ما جاء عن حبيبه - صلى الله عليه وسلم - , ولهذا لمّا جاء ثلاثة من الرجال يسألون السيدة عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله .. قالت : كان يقوم وينام - صلى الله عليه وسلم -.. وصفت لهم بعض قيامه وبعض راحته فكأنهم استقلّوا قيام رسول الله .. فقال الآخر حدثينا عن صيام رسول الله .. فأخبرتهم أنه كان يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وشرحت لهم فكأنهم استقلوا فعل رسول الله فقال الأول : أما أنا فأقوم الليل ولا أنامه .. وقال الثاني : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر أبداً .. وقال الثالث : أما أنا فأعتزل النساء فلا أنكح ، فلما بلغ الخبر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
(( أما وإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأنكح النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني))
وعزا الجفري الحديث لمسلم والنسائي وأحمد!
وسياق الحديث بهذه الرواية كما في مسلم والنسائي وأحمد : (( أن نفراً من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عماه في السر , فقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم : لا آكل اللحم , وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فحمد الله ( أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) واثنى عليه فقال : (( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام , وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
ثمّ علّق على الحديث مفسّراً له تفسيراً عجيباً , حيث زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهم , لأنّ إرادتهم للتعبّد اختلطت بمرادات النفس !
قال : (( يا رسول الله .. الناس أرادوا أن يتعبدوا ! نعم .. لكن إرادة التعبد هذه ليست مقصودها الطاعة حقيقة .. وإنما هي اختلطت بمرادات النفس .. هم انتقصوا من فعل رسول الله أكمل الخلق - صلى الله عليه وسلم - وجعلوا عبادتهم ليس على مراد الاتباع له .. لكن على مراد أهوائهم هم .. لما أرادوها على مراد أهوائهم كان سبباً في إعراض رسول الله عنهم وفي غضب رسول الله عليهم , بينما جاءتنا نماذج من الصحابة قاموا الليل كله .. ومن التابعين قاموا الليل كله , كان الإمام زين العابدين يصلي كل ليلة ألف ركعة وهو من أكابر أئمة التابعين ومن أهل البيت , كان الإمام ثابت البناني وهو من أكابر التابعين من تلاميذ أنس بن مالك وعبدالله بن مسعود .. كان يحي الليل بثلاثمائة ركعة , الإمام أبو حنيفة أربعين سنة صلى الفجر بوضوء العشاء بمعنى أنه ما نام الليل كله .. لم يكن ذلك منكراً عند السلف .. لكن الذي أنكره رسول الله على ذلك التنطع .. بمعنى أن يريدوا أن يسيروا إلى الله كما يفهمون هم لا كما يريد الله جل جلاله , فهذا سرُّ خفي في الاتباع غاب عنه كثير من الذين طلبوا صورة الاتباع واكتفوا بمظاهر الاتباع دون أن يفقهوا هذا المعنى )) انتهى بحروفه.
التعليق
وأقول : إن السر الخفي الذي نريد أن نعرفه هو من أين يأتي الجفري بهذا الكلام وهذه التعليلات ؟ إذا كانت هناك كتبُ مُعْتَبَرة ذكرت ذلك فَلَيْتَهُ يذكرها لنا !
وأما إن كان هذا الكلام من عنده ومن فكره الخاص , فهو مردود عليه ولا حاجة بالمسلمين إليه , بل يكفينا ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلامه واضح وجلي , ويكفينا ما قرره علماء المسلمين على مرِّ القرون في شرح هذا الحديث وتوضيح تلك المعاني.والعجيب حقاً هذا التناقض الشديد في كلام الجفري !إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أولئك الصحابة ( انتبه الصحابة ) لأنّهم همّوا بفعل يخالف سنَّتَهُ - صلى الله عليه وسلم - , فوصف الجفري الذي يقتدون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد غاب عنهم سر الاتباع الذي يشير إليه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - !
إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلّم عن أسرار ولم يضع الألغاز لأمّته , بل إنّه - صلى الله عليه وسلم - تكلم بكلام واضح مبين فقال: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني )) إذاً الكلام على السنَّة الظاهرة من صيام وإفطار وقيام ونوم وتزوّج , وليس على مراداتٍ نفسانّية باطنيّة !
فمن اقتدى بسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سنهّا عليه الصلاة والسلام فما المعنى الذي يكون قد غاب عنه ولم يفقهه برأي الجفري ؟وأمّا الذين يُخالفون سنّتَه - صلى الله عليه وسلم - فيقول الجفري إنهم عرفوا السرّ وفقهوا المعنى !!هذا حقاً أمرُ عجيب !
وأعجب منه كيف يسمح الجفري لنفسه أن يتدخّل ببواطن الصحابة الكرام فيحكم عليها وعلى بّياتهم فيقول عنهم : (( إن إرادة التعبّد عندهم هذه ليست مقصودها الطاّعة الحقيقية .. وإنما هي اختلطت بمرادات النفس )).
وحاشا لهم رضي الله عنهم عمّا افتراه عليهم من هذا البهتان , أتدري يا جفري من هؤلاء النفر الثلاثة ؟ إنهم سيدنا علي بن أبي طالب , وعبدالله بن عمرو بن العاص , وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم أجمعين.ثمّ يُتابع الجفري اتّهاماته لهم فيقول : (( .. هم انتقصوا من فعل رسول الله أكمل الخلق - صلى الله عليه وسلم - وجعلوا عبادتهم ليس على مراد الاتباع له .. لكن على مراد أهوائهم هم .. لما أرادوها على مراد أهوائهم كان سبباً في إعراض رسول الله عنهم وفي غضب رسول الله عليهم )). انتهى
أعوذ بالله من هذا الكلام , أيتصور مسلم عافل أن ينتقص صحابي من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! أيعقل أن يجعل سيدنا علي وعبدالله وعثمان رضي الله عنهم عبادتهم على غير مراد الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! إن الجفري لا يتصور ذلك في نفسه أو أشياخه أو حتى أتباعه ! ولكنّه يتّهم به كبار الصحابة الرّبَّانيين !! ثمَّ مِنْ أين للجفري أن ّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعرض عنهم وغضب عليهم ؟
الذي ورد في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاهم وأرشدهم وعلّمهم ونّبههم إلى الخطاء الذي ارتكبوه . وكل ذلك دون أن يجرحهم بكلمة ! بل إنّه لمّا تكلّم أمام الناس عن تلك الحادثة فقال : (( ما بال أقوام )) فلم يذكر أسماءهم رفقاً بهم وستراً لهم , فأين الجفري من هذا الهدي النبوي الكامل ؟
إنّ حقيقة القصّة هي مارواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوها , فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قد غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً . وقال آخرُ : أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخرُ : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال
( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له , لكني أصوم وأفطر , وأصلي وأرقد , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
إذاً فالصّحابة رأوا أنّ حالهم تحتاج لمزيد من العبادة , لأنهم ليسوا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , فبين لهم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنّ ما رأوه غير صحيح , وأنّ الخير كُلّه في اتّباع سنّته.
قال الحافظ ابن الحجر العسقلاني في شرح الحديث : (( قوله : فمن رغب عن سنتي فليس مني , المراد بالسنة الطريقة , لا التي تقابل الفرض , والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره , والمراد : من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس منيولمَّح بذلك إلى طريق الرهبانية , فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى , وقد عابهم بأنهم ما وفّوا بما التزموه . وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة , فيفطر ليتقوى على الصوم وينام ليتقوى على القيام ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل ,
وقوله فليس مني إن كانت الرغبة ضرباً من التأويل يُعذر صاحبه فيه , فمعنى فليس مني أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة , وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله , فمعنى فليس مني ليس على ملَّتي , لأن اعتقاد ذلك نوعُ من الكُفر)) انتهى فتح الباري(14/290)
هذا ما فهمه علماؤنا رحمهم الله من كلام رسول - صلى الله عليه وسلم - , وأما الجفري فراح يشرحه بقصص مختلقه لا تصح وهي مخالفة لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كل المخالفة !!
كقصه صلاة الإمام أبي حنيفة رحمه الله الفجر بوضوء العشاء أربعين عاماً , بمعنى أنه ما نام الليل كله ! والمعلوم أن أبا حنيفة رحمه الله كان يشتغل ببيع الخزّ ويعقد حلقات العلم ويتصدى للإفتاء طول النهار , فمتى كان ينام ؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى أصحابه عن التشدد في العبادة , فيطعن الجفري في نيّات الصحّابة , ويثني على تشدُّد من جاء بعدهم ومن هو دونهم ! إن هذا حقاً لتناقض عجيب ! وكل هذا التخبط لأجل الإنكار على من يتّبع السنة النبوية الظّاهرة الواضحة , بدعوى أنّه غاب عنه السّر الذي اكتشفه الجفري !
وأعجب من ذلك أنّ الجفري نفسه يقول في كتابه وفي عدّة مواضع :
(( الأخذ بالنصوص دون الرجوع إلى كلام الأئمة مصيبة نزلت بالأمة , بدعوى الاتباع وترك الابتداع , شغلتهم عن المعاني القلبية في السير إلى الله )) ص 58. انتهى
وأقول نعم إنّها مصيبة وأيّة مصيبة ! وأوضح مثال على ذلك هو كتاب الجفري هذا !وانظر إلى المعاني القلبية التي يتحدّث عنها الجفري ما مصدرها وعمّن تلقّاها ؟ وقد رأينا في المثال السابق ما فعلت تلك المعاني والأسرار المزعومة بالجفري , فقد جعلته يتنقّص الصّحابة ويطعن في نيّاتهم ويقلب معنى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرفِّه عن مواضعه .
والذي أحب أن أنّبه عليه هو أنّ من أجمل ما في شريعة الإسلام الغرّاء هو الاعتدال وإعطاء حقٍّ للنفس وحق للجسم وحق للأهل مع حق الله تعالى , كما ورد في حديث سلمان صريحاً
المروي في البخاري والترمذي عن ابن أبي جحيفة عن أبيه قال : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وبين أبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال ما شأنك متبذلة ؟ قالت إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا قال فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما فقال كُلْ فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم فنام ثم ذهب يقوم فقال له نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان قم الآن فقاما فصليا فقال : إن لنفسك عليك حقاً ولربك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك فقال له : ( صدق سلمان ).
, تلك هي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام , والعدول عن الاعتدال هو الذي نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ النهي , حتى قال لمن يفعل ذلك (( ليس مني )) وليس النهي لأجل تسرّب أهواء النفس إلى العبادة كما يزعم الجفري , وإلا فأين أهواء ومرادات النفس بترك التّزوّج وقيام الليل وصيام الدهر ؟.
فالجفري وأصحاب منهجه يريدون تحطيم النفس الإنسانية , والإسلام جاء بتهذيبها , والكتاب والسنّة الصحيحة ليس فيهما أنّ الدنيا عدوّة لله فابتعدوا عنها كلياً أيها الناس , وإنما قال تعالى " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا "[ القصص : 77].